فصل: الآية رقم ‏(‏246‏)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏241 ‏:‏242‏)‏

‏{‏وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون‏}‏

اختلف الناس في هذه الآية؛ فقال أبو ثور‏:‏ هي محكمة، والمتعة لكل مطلقة؛ وكذلك قال الزهري‏.‏ قال الزهري‏:‏ حتى للأمة يطلقها زوجها‏.‏ وكذلك قال سعيد بن جبير‏:‏ لكل مطلقة متعة وهو أحد قولي الشافعي لهذه الآية‏.‏ وقال مالك‏:‏ لكل مطلقه - اثنتين أو واحدة بنى بها أم لا؛ سمى لها صداقا أم لا - المتعة، إلا المطلقة قبل البناء وقد سمى لها صداقا فحسبها نصفه، ولو لم يكن سمى لها كان لها المتعة أقل من صداق المثل أو أكثر، وليس لهذه المتعة حد؛ حكاه عنه ابن القاسم‏.‏ وقال ابن القاسم في إرخاء الستور من المدونة، قال‏:‏ جعل الله تعالى المتعة لكل مطلقة بهذه الآية، ثم استثنى في الآية الأخرى التي قد فرض لها ولم يدخل بها فأخرجها من المتعة، وزعم ابن زيد أنها نسختها‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ففر ابن القاسم من لفظ النسخ إلى لفظ الاستثناء والاستثناء لا يتجه في هذا الموضع، بل هو نسخ محض كما قال زيد بن أسلم، وإذا التزم ابن القاسم أن قوله‏{‏وللمطلقات‏{‏ يعم كل مطلقة لزمه القول بالنسخ ولا بد‏.‏ وقال عطاء بن أبي رباح وغيره‏:‏ هذه الآية في الثيبات اللواتي قد جومعن، إذ تقدم في غير هذه الآية ذكر المتعة للواتي لم يدخل بهن؛ فهذا قول بأن التي قد فرض لها قبل المسيس لم تدخل قط في العموم‏.‏ فهذا يجيء على أن قوله تعالى‏{‏وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن‏}‏البقرة‏:‏ 237‏]‏ مخصصة لهذا الصنف من النساء، ومتى قيل‏:‏ إن هذا العموم يتناولها فذلك نسخ لا تخصيص‏.‏ وقال الشافعي في القول الآخر‏:‏ إنه لا متعة إلا للتي طلقت قبل الدخول وليس ثم مسيس ولا فرض؛ لأن من استحقت شيئا من المهر لم تحتج في حقها إلى المتعة‏.‏ وقول الله عز وجل في زوجات النبي صلى الله عليه وسلم‏{‏فتعالين أمتعكن‏}‏الأحزاب‏:‏ 28‏]‏ محمول على أنه تطوع من النبي صلى الله عليه وسلم، لا وجوب له‏.‏ وقوله‏{‏فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن‏}‏الأحزاب‏:‏ 49‏]‏ محمول على غير المفروضة أيضا؛ قال الشافعي‏:‏ والمفروض لها المهر إذا طلقت قبل المسيس لا متعة لها؛ لأنها أخذت نصف المهر من غير جريان وطء، والمدخول بها إذا طلقت فلها المتعة؛ لأن المهر يقع في مقابلة الوطء والمتعة بسبب الابتذال بالعقد‏.‏ وأوجب الشافعي المتعة للمختلعة والمبارئة‏.‏ وقال أصحاب مالك‏:‏ كيف يكون للمفتدية متعة وهي تعطي، فكيف تأخذ متاعا لا متعة لمختارة الفراق من مختلعة أو مفتدية أو مبارئة أو مصالحة أو ملاعنة أو معتقة تختار الفراق، دخل بها أم لا، سمى لها صداقا أم لا، وقد مضى هذا مبينا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏243‏)‏

‏{‏ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ألم تر‏{‏ هذه رؤية القلب بمعنى ألم تعلم‏.‏ والمعنى عند سيبويه تنبه إلى أمر الذين‏.‏ ولا تحتاج هذه الرؤية إلى مفعولين‏.‏ وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي ‏{‏ألم تر‏{‏ بجزم الراء، وحذفت الهمزة حذفا من غير إلقاء حركة لأن الأصل ألم ترء‏.‏ وقصة هؤلاء أنهم قوم من بني إسرائيل وقع فيهم الوباء، وكانوا بقرية يقال لها ‏(‏داوردان‏)‏ فخرجوا منها هاربين فنزلوا واديا فأماتهم الله تعالى‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون وقالوا‏:‏ نأتي أرضا ليس بها موت، فأماتهم الله تعالى؛ فمر بهم نبي فدعا الله تعالى فأحياهم‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم ماتوا ثمانية أيام‏.‏ وقيل‏:‏ سبعة، والله أعلم‏.‏ قال الحسن‏:‏ أماتهم الله قبل آجالهم عقوبة لهم، ثم بعثهم إلى بقية آجالهم‏.‏ وقيل‏:‏ إنما فعل ذلك بهم معجزة لنبي من أنبيائهم، قيل‏:‏ كان اسمه شمعون‏.‏ وحكى النقاش أنهم فروا من الحمى‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم فروا من الجهاد ولما أمرهم الله به على لسان حزقيل النبي عليه السلام، فخافوا الموت بالقتل في الجهاد فخرجوا من ديارهم فرارا من ذلك، فأماتهم الله ليعرفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد بقوله تعالى‏{‏وقاتلوا في سبيل الله‏}‏البقرة‏:‏ 190‏]‏؛ قاله الضحاك‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا القصص كله لين الأسانيد، وإنما اللازم من الآية أن الله تعالى أخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم إخبارا في عبارة التنبيه والتوقيف عن قوم من البشر خرجوا من ديارهم فرارا من الموت فأماتهم الله تعالى ثم أحياهم؛ ليروا هم وكل من خلف من بعدهم أن الإماتة إنما هي بيد الله تعالى لا بيد غيره؛ فلا معنى لخوف خائف ولا لاغترار مغتر‏.‏ وجعل الله هذه الآية مقدمة بين يدي أمرة المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجهاد؛ هذا قول الطبري وهو ظاهر رصف الآية‏.‏

قوله تعالى‏{‏وهم ألوف‏{‏ قال الجمهور‏:‏ هي جمع ألف‏.‏ قال بعضهم‏:‏ كانوا ستمائة ألف‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا ثمانين ألفا‏.‏ ابن عباس‏:‏ أربعين ألفا‏.‏ أبو مالك‏:‏ ثلاثين ألفا‏.‏ السدي‏:‏ سبعة وثلاثين ألفا‏.‏ وقيل‏:‏ سبعين ألفا؛ قاله عطاء بن أبي رباح‏.‏ وعن ابن عباس أيضا أربعين ألفا، وثمانية آلاف؛ رواه عنه ابن جريج‏.‏ وعنه أيضا ثمانية آلاف، وعنه أيضا أربعة آلاف، وقيل‏:‏ ثلاثة آلاف‏.‏ والصحيح أنهم زادوا على عشرة آلاف لقوله تعالى‏{‏وهم ألوف‏{‏ وهو جمع الكثرة، ولا يقال في عشرة فما دونها ألوف‏.‏ وقال ابن زيد في لفظة ألوف‏:‏ إنما معناها وهم مؤتلفون، أي لم تخرجهم فرقة قومهم ولا فتنة بينهم إنما كانوا مؤتلفين، فخالفت هذه الفرقة فخرجت فرارا من الموت وابتغاء الحياة بزعمهم، فأماتهم الله في منجاهم بزعمهم‏.‏ فألوف على هذا جمع الف؛ مثل جالس وجلوس‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ أماتهم الله تعالى مدة عقوبة لهم ثم أحياهم؛ وميتة العقوبة بعدها حياة، وميتة الأجل لا حياة بعدها‏.‏ قال مجاهد‏:‏ إنهم لما أحيوا رجعوا إلى قومهم يعرفون أنهم كانوا موتى ولكن سحنة الموت على وجوههم، ولا يلبس أحد منهم ثوبا إلا عاد كفنا دسما حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم‏.‏ ابن جريج عن ابن عباس‏:‏ وبقيت الرائحة على ذلك السبط من بني إسرائيل إلى اليوم‏.‏ وروي أنهم كانوا بواسط العراق‏.‏ ويقال‏:‏ إنهم أحيوا بعد أن أنتنوا؛ فتلك الرائحة موجودة في نسلهم إلى اليوم‏.‏

قوله تعالى‏{‏حذر الموت‏{‏ أي لحذر الموت؛ فهو نصب لأنه مفعول له‏.‏ و‏{‏موتوا‏{‏ أمر تكوين، ولا يبعد أن يقال‏:‏ نودوا وقيل لهم‏:‏ موتوا‏.‏ وقد حكي أن ملكين صاحا بهم‏:‏ موتوا فماتوا؛ فالمعنى قال لهم الله بواسطة الملكين ‏{‏موتوا‏{‏، والله أعلم‏.‏

أصح هذه الأقوال وأبينها وأشهرها أنهم خرجوا فرارا من الوباء؛ رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ خرجوا فرارا من الطاعون فماتوا، فدعا الله نبي من الأنبياء أن يحييهم حتى يعبدوه فأحياهم الله‏.‏ وقال عمرو بن دينار في هذه الآية‏:‏ وقع الطاعون في قريتهم فخرج أناس وبقي أناس، ومن خرج أكثر ممن بقي، قال‏:‏ فنجا الذين خرجوا ومات الذين أقاموا؛ فلما كانت الثانية خرجوا بأجمعهم إلا قليلا فأماتهم الله ودوابهم، ثم أحياهم فرجعوا إلى بلادهم وقد توالدت ذريتهم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ خرجوا حذارا من الطاعون فأماتهم الله ودوابهم في ساعة واحدة، وهم أربعون ألفا‏.‏

قلت‏:‏ وعلى هذا تترتب الأحكام في هذه الآية‏.‏ فروى الأئمة واللفظ للبخاري من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه سمع أسامة بن زيد يحدث سعدا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الوجع فقال ‏(‏رجز أو عذاب عذب به بعض الأمم ثم بقي منه بقية فيذهب المرة ويأتي الأخرى فمن سمع به بأرض فلا يقدمن عليه ومن كان بأرض وقع بها فلا يخرج فرارا منه‏)‏ وأخرجه أبو عيسى الترمذي فقال حدثنا قتيبة أنبأنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن عامر بن سعد عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الطاعون فقال‏:‏ ‏(‏بقية رجز أو عذاب أرسل على طائفة من بني إسرائيل فإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها وإذا وقع بأرض ولستم بها فلا تهبطوا عليها‏)‏ قال‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏ وبمقتضى هذه الأحاديث عمل عمر والصحابة رضوان الله عليهم لما رجعوا من سرغ حين أخبرهم عبدالرحمن بن عوف بالحديث، على ما هو مشهور في الموطأ وغيره‏.‏ وقد كره قوم الفرار من الوباء والأرض السقيمة؛ روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت‏:‏ الفرار من الوباء كالفرار من الزحف‏.‏ وقصة عمر في خروجه إلى الشام مع أبي عبيدة معروفة، وفيها‏:‏ أنه رجع‏.‏ وقال الطبري‏:‏ في حديث سعد دلالة على أن على المرء توقي المكاره قبل نزولها، وتجنب الأشياء المخوفة قبل هجومها، وأن عليه الصبر وترك الجزع بعد نزولها؛ وذلك أنه عليه السلام نهى من لم يكن في أرض الوباء عن دخولها إذا وقع فيها، ونهى من هو فيها عن الخروج منها بعد وقوعه فيها فرارا منه؛ فكذلك الواجب أن يكون حكم كل متق من الأمور غوائلها، سبيله في ذلك سبيل الطاعون‏.‏ وهذا المعنى نظير قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وهذا هو الصحيح في الباب، وهو مقتضى قول الرسول عليه السلام، وعليه عمل أصحابه البررة الكرام رضي الله عنهم، وقد قال عمر لأبي عبيدة محتجا عليه لما قال له‏:‏ أفرارا من قدر الله فقال عمر‏:‏ لو غيرك قالها يا أبا عبيدة نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله‏.‏ المعنى‏:‏ أي لا محيص للإنسان عما قدره الله له وعليه، ولكن أمرنا الله تعالى بالتحرز من المخاوف والمهلكات، وباستفراغ الوسع في التوقي من المكروهات‏.‏ ثم قال له‏:‏ أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله عز وجل‏.‏ فرجع عمر من موضعه ذلك إلى المدينة‏.‏ قال الكيا الطبري‏:‏ ولا نعلم خلافا أن الكفار أو قطاع الطريق إذا قصدوا بلدة ضعيفة لا طاقة لأهلها بالقاصدين فلهم أن يتنحوا من بين أيديهم، وإن كانت الآجال المقدرة لا تزيد ولا تنقص‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنما نهي عن الفرار منه لأن الكائن بالموضع الذي الوباء فيه لعله قد أخذ بحظ منه، لاشتراك أهل ذلك الموضوع في سبب ذلك المرض العام، فلا فائدة لفراره، بل يضيف إلى ما أصابه من مبادئ الوباء مشقات السفر، فتتضاعف الآلام ويكثر الضرر فيهلكون بكل طريق ويطرحون في كل فجوة ومضيق، ولذلك يقال‏:‏ ما فر أحد من الوباء فسلم؛ حكاه ابن المدائني‏.‏ ويكفي في ذلك موعظة قوله تعالى‏{‏ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا‏{‏ ولعله إن فر ونجا يقول‏:‏ إنما نجوت من أجل خروجي عنه فيسوء اعتقاده‏.‏ وبالجملة فالفرار منه ممنوع لما ذكرناه، ولما فيه من تخلية البلاد‏:‏ ولا تخلو من مستضعفين يصعب عليهم الخروج منها، ولا يتأتى لهم ذلك، ويتأذون بخلو البلاد من المياسير الذين كانوا أركانا للبلاد ومعونة للمستضعفين‏.‏ وإذا كان الوباء بأرض فلا يقدم عليه أحد أخذا بالحزم والحذر والتحرز من مواضع الضرر، ودفعا للأوهام المشوشة لنفس الإنسان؛ وفي الدخول عليه الهلاك، وذلك لا يجوز في حكم الله تعالى، فإن صيانة النفس عن المكروه واجبة، وقد يخاف عليه من سوء الاعتقاد بأن يقول‏:‏ لولا دخولي في هذا المكان لما نزل بي مكروه‏.‏ فهذه فائدة النهي عن دخول أرض بها الطاعون أو الخروج منها، والله أعلم‏.‏ وقد قال ابن مسعود‏:‏ الطاعون فتنة على المقيم والفار؛ فأما الفار فيقول‏:‏ فبفراري نجوت، وأما المقيم فيقول‏:‏ أقمت فمت؛ وإلى نحو هذا أشار مالك حين سئل عن كراهة النظر إلى المجذوم فقال‏:‏ ما سمعت فيه بكراهة، وما أرى ما جاء من النهي عن ذلك إلا خيفة أن يفزعه أو يخيفه شيء يقع في نفسه؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم في الوباء‏:‏ ‏(‏إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه‏)‏‏.‏ وسئل أيضا عن البلدة يقع فيها الموت وأمراض، فهل يكره الخروج منها ‏؟‏ فقال‏:‏ ما أرى بأسا خرج أو أقام‏.‏

في قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إذا وقع الوباء بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه‏)‏‏.‏ دليل على أنه يجوز الخروج من بلدة الطاعون على غير سبيل الفرار منه، إذا اعتقد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وكذلك حكم الداخل إذا أيقن أن دخولها لا يجلب إليه قدرا لم يكن الله قدره له؛ فباح له الدخول إليه والخروج منه على هذا الحد الذي ذكرناه، والله أعلم‏.‏

في فضل الصبر على الطاعون وبيانه‏.‏ الطاعون وزنه فاعول من الطعن، غير أنه لما عدل به عن أصله وضع دالا على الموت العام بالوباء؛ قاله الجوهري‏.‏ ويروى من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏فناء أمتي بالطعن والطاعون‏)‏ قالت‏:‏ الطعن قد عرفناه فما الطاعون ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏غدة كغدة البعير تخرج في المراق والآباط‏)‏‏.‏ قال العلماء‏:‏ وهذا الوباء قد يرسله الله نقمة وعقوبة على من يشاء من العصاة من عبيده وكفرتهم، وقد يرسله شهادة ورحمة للصالحين؛ كما قال معاذ في طاعون عمواس‏:‏ إنه شهادة ورحمة لكم ودعوة نبيكم، اللهم أعط معاذا وأهله نصيبهم من رحمتك‏.‏ فطعن في كفه رضي الله عنه‏.‏ قال أبو قلابة‏:‏ قد عرفت الشهادة والرحمة ولم أعرف ما دعوة نبيكم ‏؟‏ فسألت عنها فقيل‏:‏ دعا عليه السلام أن يجعل فناء أمته بالطعن والطاعون حين دعا ألا يجعل بأس أمته بينهم فمنعها فدعا بهذا‏.‏ ويروى من حديث جابر وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏الفار من الطاعون كالفار من الزحف والصابر فيه كالصابر في الزحف‏)‏‏.‏ وفي البخاري عن يحيى بن يعمر عن عائشة أنها أخبرته أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فأخبرها نبي الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنه كان عذابا يبعثه الله على من يشاء فجعله الله رحمة للمؤمنين فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد‏)‏‏.‏ وهذا تفسير لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏الطاعون شهادة والمطعون شهيد‏)‏‏.‏ أي الصابر عليه المحتسب أجره على الله العالم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله عليه؛ ولذلك تمنى معاذ أن يموت فيه لعلمه أن من مات فهو شهيد‏.‏ وأما من جزع من الطاعون وكرهه وفر منه فليس بداخل في معنى الحديث، والله أعلم‏.‏

قال أبو عمر‏:‏ لم يبلغني أن أحدا من حملة العلم فر من الطاعون إلا ما ذكره ابن المدائني أن علي بن زيد بن جدعان هرب من الطاعون إلى السيالة فكان يجمع كل جمعة ويرجع؛ فكان إذا جمع صاحوا به‏:‏ فر من الطاعون فمات بالسيالة‏.‏ قال‏:‏ وهرب عمرو بن عبيد ورباط بن محمد إلى الرباطية فقال إبراهيم بن علي الفقيمي في ذلك‏:‏

ولما استفز الموت كل مكذب صبرت ولم يصبر رباط ولا عمرو

وذكر أبو حاتم عن الأصمعي قال‏:‏ هرب بعض البصريين من الطاعون فركب حمارا له ومضى بأهله نحو سفوان؛ فسمع حاديا يحدو خلفه‏:‏

لن يسبق الله على حمار ولا على ذي منعة طيار

أو يأتي الحتف على مقدار قد يصبح الله أمام الساري

وذكر المدائني قال‏:‏ وقع الطاعون بمصر في ولاية عبدالعزيز بن مروان فخرج هاربا منه فنزل قرية من قرى الصعيد يقال لها ‏(1)‏.‏ فقدم عليه حين نزلها رسول لعبدالملك بن مروان‏.‏ فقال له عبدالعزيز‏:‏ ما اسمك ‏؟‏ فقال له‏:‏ طالب بن مدرك‏.‏ فقال‏:‏ أوه ما أراني راجعا إلى الفسطاط فمات في تلك القرية‏.‏

 الآية رقم ‏(‏244‏)‏

‏{‏وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم‏}‏

هذا خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بالقتال في سبيل الله في قول الجمهور‏.‏ وهو الذي ينوى به أن تكون كلمة الله هي العليا‏.‏ وسبل الله كثيرة فهي عامة في كل سبيل؛ قال الله تعالى‏{‏قل هذه سبيلي‏}‏يوسف‏:‏ 108‏]‏‏.‏ قال مالك‏:‏ سبل الله كثيرة، وما من سبيل إلا يقاتل عليها أو فيها أو لها، وأعظمها دين الإسلام، لا خلاف في هذا‏.‏ وقيل‏:‏ الخطاب للذين أحيوا من بني إسرائيل؛ وروي عن ابن عباس والضحاك‏.‏ والواو على هذا في قوله ‏{‏وقاتلوا‏{‏ عاطفة على الأمر المتقدم، وفي الكلام متروك تقديره‏:‏ وقال لهم قاتلوا‏.‏ وعلى القول الأول عاطفة جملة كلام على جملة ما تقدم، ولا حاجة إلى إضمار في الكلام‏.‏ قال النحاس‏{‏وقاتلوا‏{‏ أمر من الله تعالى للمؤمنين ألا تهربوا كما هرب هؤلاء‏.‏ ‏{‏واعلموا أن الله سميع عليم‏{‏ أي يسمع قولكم إن قلتم مثل ما قال هؤلاء ويعلم مرادكم به، وقال الطبري‏:‏ لا وجه لقول من قال‏:‏ إن الأمر بالقتال للذين أحيوا‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏245‏)‏

‏{‏من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون‏}‏

قوله تعالى‏{‏من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا‏{‏ لما أمر الله تعالى بالجهاد والقتال على الحق - إذ ليس شيء من الشريعة إلا ويجوز القتال عليه وعنه، وأعظمها دين الإسلام كما قال مالك - حرض على الإنفاق في ذلك‏.‏ فدخل في هذا الخبر المقاتل في سبيل الله، فإنه يقرض به رجاء الثواب كما فعل عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة‏.‏ و‏{‏ من‏{‏ رفع بالابتداء، و‏{‏ذا‏{‏ خبره، و‏{‏الذي‏{‏ نعت لذا، وإن شئت بدل‏.‏ ولما نزلت هذه الآية بادر أبو الدحداح إلى التصدق بماله ابتغاء ثواب ربه‏.‏ أخبرنا الشيخ الفقيه الإمام المحدث القاضي أبو عامر يحيى بن عامر بن أحمد بن منيع الأشعري نسبا ومذهبا بقرطبة - أعادها الله - في ربيع الآخر عام ثمانية وعشرين وستمائة قراءة مني عليه قال‏:‏ أخبرنا أبي إجازة قال‏:‏ قرأت على أبي بكر عبدالعزيز بن خلف بن مدين الأزدي عن أبي عبدالله بن سعدون سماعا عليه؛ قال‏:‏ حدثنا أبو الحسن علي بن مهران قال‏:‏ حدثنا أبو الحسن محمد بن عبدالله بن زكريا بن حيوة النيسابوري سنة ست وستين وثلاثمائة، قال‏:‏ أنبأنا عمي أبو زكريا يحيى بن زكريا قال‏:‏ حدثنا محمد بن معاوية بن صالح قال‏:‏ حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبدالله بن الحارث عن عبدالله بن مسعود قال‏:‏ لما نزلت‏{‏من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا‏{‏ قال أبو الدحداح‏:‏ يا رسول الله أو إن الله تعالى يريد منا القرض ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم يا أبا الدحداح‏)‏ قال‏:‏ أرني يدك؛ قال فناوله؛ قال‏:‏ فإني أقرضت الله حائطا فيه ستمائة نخلة‏.‏، ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه وعياله؛ فناداها‏:‏ يا أم الدحداح؛ قالت‏:‏ لبيك؛ قال‏:‏ اخرجي، قد أقرضت ربي عز وجل حائطا فيه ستمائة نخلة‏.‏ وقال زيد بن أسلم‏:‏ لما نزل‏{‏من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا‏{‏ قال أبو الدحداح‏:‏ فداك أبي وأمي يا رسول الله إن الله يستقرضنا وهو غني عن القرض ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم يريد أن يدخلكم الجنة به‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فإني إن أقرضت ربي قرضا يضمن لي به ولصبيتي الدحداحة معي الجنة ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏ قال‏:‏ فناولني يدك؛ فناوله رسوله الله صلى الله عليه وسلم يده‏:‏ فقال‏:‏ إن لي حديقتين إحداهما بالسافلة والأخرى بالعالية، والله لا أملك غيرهما، قد جعلتهما قرضا لله تعالى‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اجعل إحداهما لله والأخرى دعها معيشة لك ولعيالك‏)‏ قال‏:‏ فأشهدك يا رسول الله أني قد جعلت خيرهما لله تعالى، وهو حائط فيه ستمائة نخلة‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏إذا يجزيك الله به الجنة‏)‏‏.‏ فانطلق أبو الدحداح حتى جاء أم الدحداح وهي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل فأنشأ يقول‏:‏

هداك ربي سبل الرشاد إلى سبيل الخير والسداد

بيني من الحائط بالوداد فقد مضى قرضا إلى التناد

أقرضته الله على اعتمادي بالطوع لا من ولا ارتداد

إلا رجاء الضعف في المعاد فارتحلي بالنفس والأولاد

والبر لا شك فخير زاد قدمه المرء إلى المعاد

قالت أم الدحداح‏:‏ ربح بيعك بارك الله لك فيما اشتريت، ثم أجابته أم الدحداح وأنشأت تقول‏:‏

بشرك الله بخير وفرح مثلك أدى ما لديه ونصح

قد متع الله عيالي ومنح بالعجوة السوداء والزهو البلح

والعبد يسعى وله ما قد كدح طول الليالي وعليه ما اجترح

ثم أقبلت أم الدحداح على صبيانها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم حتى أفضت إلى الحائط الآخر؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كم من عذق رداح ودار فياح لأبي الدحداح‏)‏‏.‏

قال ابن العربي‏{‏انقسم الخلق بحكم الخالق وحكمته وقدرته ومشيئته وقضائه وقدره حين سمعوا هذه الآية أقساما، فتفرقوا فرقا ثلاثة‏:‏ الفرقة الأولى الرَّذلى قالوا‏:‏ إن رب محمد محتاج فقير إلينا ونحن أغنياء، فهذه جهالة لا تخفى على ذي لب، فرد الله عليهم بقوله‏{‏لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء‏}‏آل عمران‏:‏ 181‏]‏‏.‏ الفرقة الثانية لما سمعت هذا القول آثرت الشح والبخل وقدمت الرغبة في المال فما أنفقت في سبيل الله ولا فكت أسيرا ولا أعانت أحدا تكاسلا عن الطاعة وركونا إلى هذه الدار‏.‏ الفرقة الثالثة لما سمعت بادرت إلى امتثاله وآثر المجيب منهم بسرعة بماله كأبي الدحداح رضي الله عنه وغيره‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏قرضا حسنا‏{‏ القرض‏:‏ اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء وأقرض فلان فلانا أي أعطاه ما يتجازاه قال الشاعر وهو لبيد‏:‏

وإذا جوزيت قرضا فاجزه إنما يجزي الفتى ليس الجمل

والقرض بالكسر لغة فيه حكاها الكسائي‏.‏ واستقرضت من فلان أي طلبت منه القرض فأقرضني‏.‏ واقترضت منه أي أخذت القرض‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ القرض في اللغة البلاء الحسن والبلاء السيئ قال أمية‏:‏

كل امرئ سوف يجزى قرضه حسنا أو سيئا ومدينا مثل ما دانا

وقال آخر‏:‏

تجازى القروض بأمثالها فبالخير خيرا وبالشر شرا

وقال الكسائي‏:‏ القرض ما أسلفت من عمل صالح أو سيئ‏.‏ وأصل الكلمة القطع؛ ومنه المقراض‏.‏ وأقرضته أي قطعت له من مالي قطعة يجازي عليها‏.‏ وانقرض القوم‏:‏ انقطع أثرهم وهلكوا‏.‏ والقرض ههنا‏:‏ اسم، ولولاه لقال ههنا إقراضا‏.‏ واستدعاء القرض في هذه الآية إنما هي تأنيس وتقريب للناس بما يفهمونه، والله هو الغني الحميد؛ لكنه تعالى شبه عطاء المؤمن في الدنيا بما يرجو به ثوابه في الآخرة بالقرض كما شبه إعطاء النفوس والأموال في أخذ الجنة بالبيع والشراء‏.‏ حسب ما يأتي بيانه في ‏{‏براءة‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ وقيل المراد بالآية الحث على الصدقة وإنفاق المال على الفقراء والمحتاجين والتوسعة عليهم، وفي سبيل الله بنصرة ا الدين‏.‏ وكنى الله سبحانه عن الفقير بنفسه العلية المنزهة عن الحاجات ترغيبا في الصدقة، كما كنى عن المريض والجائع والعطشان بنفسه المقدسة عن النقائص والآلام‏.‏ ففي صحيح الحديث إخبارا عن الله تعالى‏:‏ ‏(‏يا ابن آدم مرضت فلم تعدني واستطعمتك فلم تطعمني واستسقيتك فلم تسقني‏)‏ قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي‏)‏ وكذا فيما قبل؛ أخرجه مسلم والبخاري وهذا كله خرج مخرج التشريف لمن كنى عنه ترغيبا لمن خوطب به‏.‏

يجب على المستقرض رد القرض؛ لأن الله تعالى بين أن من أنفق في سبيل الله لا يضيع عند الله تعالى بل يرد الثواب قطعا وأبهم الجزاء‏.‏ وفي الخبر‏:‏ ‏(‏النفقة في سبيل الله تضاعف إلى سبعمائة ضعف وأكثر‏)‏ على ما يأتي بيانه في هذه السورة عند قوله تعالى‏{‏مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل‏}‏البقرة‏:‏ 261‏]‏ الآية‏.‏ وقال ههنا‏{‏فيضاعفه له أضعافا كثيرة‏{‏ وهذا لا نهاية له ولا حد‏.‏

ثواب القرض عظيم، لأن فيه توسعة على المسلم وتفريجا عنه‏.‏ خرج ابن ماجة في سننه عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوبا الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر فقلت لجبريل‏:‏ ما بال القرض أفضل من الصدقة قال لأن السائل يسأل وعنده والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة‏)‏‏.‏ قال‏:‏ حدثنا محمد بن خلف العسقلاني حدثنا يعلى حدثنا سليمان بن يسير عن قيس بن رومي قال‏:‏ كان سليمان بن أذنان يقرض علقمة ألف درهم إلى عطائه، فلما خرج عطاؤه تقاضاها منه، واشتد عليه فقضاه، فكأن علقمة غضب فمكث أشهرا ثم أتاه فقال‏:‏ أقرضني ألف درهم إلى عطائي، قال‏:‏ نعم وكرامة يا أم عتبة هلمي تلك الخريطة المختومة التي عندك، قال‏:‏ فجاءت بها؛ فقال‏:‏ أما والله إنها لدراهمك التي قضيتني ما حركت منها درهما واحدا؛ قال‏:‏ فلله أبوك ‏؟‏ ما حملك على ما فعلت بي ‏؟‏ قال‏:‏ ما سمعت منك؛ قال‏:‏ ما سمعت مني ‏؟‏ قال‏:‏ سمعتك تذكر عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقتها مرة‏)‏ قال‏:‏ كذلك أنبأني ابن مسعود‏.‏

قرض الآدمي للواحد واحد، أي يرد عليه مثل ما أقرضه‏.‏ وأجمع أهل العلم على أن استقراض الدنانير والدراهم والحنطة والشعير والتمر والزبيب وكل ما له مثل من سائر الأطعمة جائز‏.‏ وأجمع المسلمون نقلا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أن اشتراط الزيادة في السلف ربا ولو كان قبضة من علف - كما قال ابن مسعود - أو حبة واحدة‏.‏ ويجوز أن يرد أفضل مما يستلف إذا لم يشترط ذلك عليه؛ لأن ذلك من باب المعروف؛ استدلالا بحديث أبي هريرة في البكر‏:‏ ‏(‏إن خياركم أحسنكم قضاء‏)‏ رواه الأئمة‏:‏ البخاري ومسلم وغيرهما‏.‏ فأثنى صلى الله عليه وسلم على من أحسن القضاء، وأطلق ذلك ولم يقيده بصفة‏.‏ وكذلك قضى هو صلى الله عليه وسلم في البكر وهو الفتي المختار من الإبل جملا خيارا رباعيا، والخيار‏:‏ المختار، والرباعي هو الذي دخل في السنة الرابعة؛ لأنه يلقي فيها رباعيته وهي التي تلي الثنايا وهي أربع رباعيات - مخففة الباء - وهذا الحديث دليل على جواز قرض الحيوان، وهو مذهب الجمهور، ومنع من ذلك أبو حنيفة وقد تقدم‏.‏

ولا يجوز أن يهدي من استقرض هدية للمقرض، ولا يحل للمقرض قبولها إلا أن يكون عادتهما ذلك؛ بهذا جاءت السنة‏:‏ خرج ابن ماجة حدثنا هشام بن عمار قال‏:‏ حدثنا إسماعيل بن عياش حدثنا عتبة بن حميد الضبي عن يحيى بن أبي إسحاق الهنائي قال‏:‏، سألت أنس بن مالك عن الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدي إليه‏؟‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا أقرض أحدكم أخاه قرضا فأهدى له أو حمله على دابته فلا يقبلها ولا يركبها إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبله ذلك‏)‏‏.‏

القرض يكون من المال - وقد بينا حكمه - ويكون من العرض؛ وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته قال اللهم إني قد تصدقت بعِرضي على عبادك‏)‏‏.‏ وروي عن ابن عمر‏:‏ أقرض من عرضك ليوم فقرك؛ يعني من سبك فلا تأخذ منه حقا ولا تقم عليه حدا حتى تأتي يوم القيامة موفر الأجر‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يجوز التصدق بالعِرض لأنه حق الله تعالى، وروي عن مالك‏.‏ ابن العربي‏:‏ وهذا فاسد، قال عليه السلام في الصحيح‏:‏ ‏(‏إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ وهذا يقتضي أن تكون هذه المحرمات الثلاث تجري مجرى واحدا في كونها باحترامها حقا للآدمي‏.‏

قوله تعالى‏{‏حسنا‏{‏ قال الواقدي‏:‏ محتسبا طيبة به نفسه‏.‏ وقال عمرو بن عثمان الصدفي‏:‏ لا يمن به ولا يؤذي‏.‏ وقال سهل بن عبدالله‏:‏ لا يعتقد في قرضه عوضا‏.‏

قوله تعالى‏{‏فيضاعفه له أضعافا كثيرة‏{‏ قرأ عاصم وغيره ‏{‏فيضاعفه‏{‏ بالألف ونصب الفاء‏.‏ وقرأ ابن عامر ويعقوب بالتشديد في العين مع سقوط الألف ونصب الفاء‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو جعفر وشيبة بالتشديد ورفع الفاء‏.‏ وقرأ الآخرون بالألف ورفع الفاء‏.‏ فمن رفعه نسقه على قوله‏{‏يقرض‏{‏ وقيل‏:‏ على تقدير هو يضاعفه‏.‏ ومن نصب فجوابا للاستفهام بالفاء‏.‏ وقيل‏:‏ بإضمار ‏{‏أن‏{‏ والتشديد والتخفيف لغتان‏.‏ دليل التشديد ‏{‏أضعافا كثيرة‏{‏ لأن التشديد للتكثير‏.‏ وقال الحسن والسدي‏:‏ لا نعلم هذا التضعيف إلا لله وحده، لقوله تعالى‏{‏ويؤت من لدنه أجرا عظيما‏}‏النساء‏:‏40‏]‏‏.‏ قاله أبو هريرة‏:‏ هذا في نفقة الجهاد، وكنا نحسب والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا نفقة الرجل على نفسه ورفقائه وظهره بألفي ألف‏.‏

قوله تعالى‏{‏والله يقبض ويبسط‏{‏ هذا عام في كل شيء فهو القابض الباسط، وقد أتينا عليهما في ‏(‏شرح الأسماء الحسنى في الكتاب الأسنى‏)‏‏.‏ ‏{‏وإليه ترجعون‏{‏ وعيد فيجازي كلا بعمله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏246‏)

‏{‏ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين‏}‏

ذكر في التحريض على القتال قصة أخرى جرت في بني إسرائيل‏.‏ والملأ‏:‏ الأشراف من الناس، كأنهم ممتلئون شرفا‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ سموا بذلك لأنهم ممتلئون مما يحتاجون إليه منهم‏.‏ والملأ في هذه الآية القوم؛ لأن المعنى يقتضيه‏.‏ والملأ‏:‏ اسم للجمع كالقوم والرهط‏.‏ والملأ أيضا‏:‏ حسن الخلق، ومنه الحديث ‏(‏أحسنوا الملأ فكلكم سيروى‏)‏ خرجه مسلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏من بعد موسى‏{‏ أي من بعد وفاته‏.‏ ‏{‏إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله‏{‏ قيل‏:‏ هو شمويل بن بال بن علقمة ويعرف بابن العجوز‏.‏ ويقال فيه‏:‏ شمعون، قاله السدي‏:‏ وإنما قيل‏:‏ ابن العجوز لأن أمه كانت عجوزا فسألت الله الولد وقد كبرت وعقمت فوهبه الله تعالى لها‏.‏ ويقال له‏:‏ سمعون لأنها دعت الله أن يرزقها الولد فسمع دعاءها فولدت غلاما فسمته ‏{‏سمعون‏{‏، تقول‏:‏ سمع الله دعائي، والسين تصير شينا بلغة العبرانية، وهو من ولد يعقوب‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ هو من نسل هارون عليه السلام‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هو يوشع بن نون‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا ضعيف لأن مدة داود هي من بعد موسى بقرون من الناس، ويوشع هو فتى موسى‏.‏ وذكر المحاسبي أن اسمه إسماعيل، والله أعلم‏.‏ وهذه الآية هي خبر عن قوم من بني إسرائيل نالتهم ذلة وغلبة عدو فطلبوا الإذن في الجهاد وأن يؤمروا به، فلما أمروا كعَّ أكثرهم وصبر الأقل فنصرهم الله‏.‏ وفي الخبر أن هؤلاء المذكورين هم الذين أميتوا ثم أحيوا، والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏نقاتل‏{‏ بالنون والجزم وقراءة جمهور القراء على جواب الأمر‏.‏ وقرأ الضحاك وابن أبي عبلة بالياء ورفع الفعل، فهو في موضع الصفة للملك‏.‏

قوله تعالى‏{‏قال هل عسيتم‏{‏ و‏{‏عسيتم‏{‏ بالفتح والكسر لغتان، وبالثانية قرأ نافع، والباقون بالأولى وهي الأشهر‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ وليس للكسر وجه، وبه قرأ الحسن وطلحة‏.‏ قال مكي في اسم الفاعل‏:‏ عس، فهذا يدل على كسر السين في الماضي‏.‏ والفتح في السين هي اللغة الفاشية‏.‏ قال أبو علي‏:‏ ووجه الكسر قول العرب‏:‏ هو عسٍ بذلك، مثل حرٍ وشجٍ، وقد جاء فعل وفعل في نحو نعم ونعم، وكذلك عَسَيت وعَسِيت، فإن أسند الفعل إلى ظاهر فقياس عسيتم أن يقال عَسِيَ زيد، مثل رضي زيد، فإن قيل فهو القياس وإن لم يقل، فسائغ أن يؤخذ باللغتين فتستعمل إحداهما موضع الأخرى‏.‏ ومعنى هذه المقالة‏:‏ هل أنتم قريب من التولي والفرار‏؟‏‏.‏ ‏{‏إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا‏{‏ قال الزجاج‏{‏ألا تقاتلوا‏{‏ في موضع نصب، أي هل عسيتم مقاتلة‏.‏ ‏{‏قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله‏{‏ قال الأخفش‏{‏أن‏{‏ زائدة‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هو محمول على المعنى، أي وما منعنا، كما تقول‏:‏ ما لك ألا تصلي ‏؟‏ أي ما منعك‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى وأي شيء لنا في ألا نقاتل في سبيل الله قال النحاس‏:‏ وهذا أجودها‏.‏ ‏{‏وأن‏{‏ في موضع نصب‏.‏ ‏{‏وقد أخرجنا من ديارنا‏{‏ تعليل، وكذلك ‏{‏وأبنائنا‏{‏ أي بسبب ذرارينا‏.‏

قوله تعالى‏{‏فلما كتب عليهم القتال‏{‏ أي فرض عليهم‏.‏ ‏{‏القتال تولوا‏{‏ أخبر تعالى أنه لما فرض عليهم القتال ورأوا الحقيقة ورجعت أفكارهم إلى مباشرة الحرب وأن نفوسهم، ربما قد تذهب ‏{‏تولوا‏{‏ أي اضطربت نياتهم وفترت عزائمهم، وهذا شأن الأمم المتنعمة المائلة إلى الدعة تتمنى الحرب أوقات الأنفة فإذا حضرت الحرب كعت وانقادت لطبعها‏.‏ وعن هذا المعنى نهى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏(‏لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا‏)‏ رواه الأئمة‏.‏ ثم أخبر الله تعالى عن قليل منهم أنهم ثبتوا على النية الأولى واستمرت عزيمتهم على القتال في سبيل الله تعالى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏247‏)‏

‏{‏وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا‏{‏ أي أجابكم إلى ما سألتم، وكان طالوت سقاء‏.‏ وقيل‏:‏ دباغا‏.‏ وقيل‏:‏ مكاريا، وكان عالما فلذلك رفعه الله على ما يأتي‏:‏ وكان من سبط بنيامين ولم يكن من سبط النبوة ولا من سبط الملك، وكانت النبوة في بني لاوى، والملك في سبط يهوذا فلذلك أنكروا‏.‏ قال وهب بن منبه‏:‏ لما قال الملأ من بني إسرائيل لشمويل بن بال ما قالوا، سأل الله تعالى أن يبعث إليهم ملكا ويدله عليه؛ فقال الله تعالى له‏:‏ انظر إلى القرن الذي فيه الدهن في بيتك فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي في القرن، فهو ملك بني إسرائيل فأدهن رأسه منه وملكه عليهم‏.‏ قال‏:‏ وكان طالوت دباغا فخرج في ابتغاء دابة أضلها، فقصد شمويل عسى أن يدعو له في أمر الدابة أو يجد عنده فرجا، فنش الدهن على ما زعموا، قال‏:‏ فقام إليه شمويل فأخذه ودهن منه رأس طالوت، وقال له‏:‏ أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله تعالى بتقديمه، ثم قال لبني إسرائيل‏{‏إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا‏{‏‏.‏ وطالوت وجالوت اسمان أعجميان معربان؛ ولذلك، لم ينصرفا، وكذلك داود، والجمع طواليت وجواليت ودوايد، ولو سميت رجلا بطاوس وراقود لصرفت وإن كان أعجميين‏.‏ والفرق بين هذا والأول أنك تقول‏:‏ الطاوس، فتدخل الألف واللام فيمكن في العربية ولا يمكن هذا في ذاك‏.‏

قوله تعالى‏{‏أنى يكون له الملك علينا‏{‏ أي كيف يملكنا ونحن أحق بالملك منه‏.‏ جروا على سنتهم في تعنيتهم الأنبياء وحيدهم عن أمر الله تعالى فقالوا‏{‏أنى‏{‏ أي من أي جهة، فـ ‏{‏أنى‏{‏ في موضع نصب على الظرف، ونحن من سبط الملوك وهو ليس كذلك وهو فقير، فتركوا السبب الأقوى وهو قدر الله تعالى وقضاؤه السابق حتى احتج عليهم نبيهم بقوله‏{‏إن الله اصطفاه‏{‏ أي اختاره وهو الحجة القاطعة، وبين لهم مع ذلك تعليل اصطفاء طالوت، وهو بسطته في العلم الذي هو مِلاك الإنسان، والجسم الذي هو معينه في الحرب وعدته عند اللقاء؛ فتضمنت بيان صفة الإمام وأحوال الإمامة، وإنها مستحقة بالعلم والدين والقوة لا بالنسب، فلا حظ للنسب فيها مع العلم وفضائل النفس وأنها متقدمة عليه؛ لأن الله تعالى أخبر أنه اختاره عليهم لعلمه وقوته، وإن كانوا أشرف منتسبا‏.‏ وقد مضى في أول السورة من ذكر الإمامة وشروطها ما يكفي ويغني‏.‏ وهذه الآية أصل فيها‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كان طالوت يومئذ أعلم رجل في بني إسرائيل وأجمله وأتمه؛ وزيادة الجسم مما يهيب العدو‏.‏ وقيل‏:‏ سمى طالوت لطوله‏.‏ وقيل‏:‏ زيادة الجسم كانت بكثرة معاني الخير والشجاعة، ولم يرد عظم الجسم؛ ألم تر إلى قول الشاعر‏:‏

ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور

ويعجبك الطرير فتبتليه فخلف ظنك الرجل الطرير

وقد عظم البعير بغير لب فلم يستغن بالعظم البعير

قلت‏:‏ ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم لأزواجه‏:‏ ‏(‏أسرعكن لحاقا بي أطولكن يدا‏)‏ فكن يتطاولن؛ فكانت زينب أولهن موتا؛ لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق؛ خرجه مسلم‏.‏ وقال بعض المتأولين‏:‏ المراد بالعلم علم الحرب، وهذا تخصيص العموم من غير دليل‏.‏ وقد قيل‏:‏ زيادة العلم بأن أوحى الله إليه، وعلى هذا كان طالوت نبيا، وسيأتي‏.‏

قوله تعالى‏{‏والله يؤتي ملكه من يشاء‏{‏ ذهب بعض المتأولين إلى أن هذا من قول الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ هو من قول شمويل وهو الأظهر‏.‏ قال لهم ذلك لما علم من تعنتهم وجدالهم في الحجج، فأراد إن يتمم كلامه بالقطعي الذي لا اعتراض عليه فقال الله تعالى‏{‏والله يؤتي ملكه من يشاء‏{‏‏.‏ وإضافة ملك الدنيا إلى الله تعالى إضافة مملوك إلى ملك‏.‏ ثم قال لهم على جهة التغبيط والتنبيه من غير سؤال منهم‏{‏إن آية ملكه‏{‏‏.‏ ويحتمل أن يكونوا سألوه الدلالة على صدقه في قوله‏{‏إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا‏{‏‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والأول أظهر بمساق الآية، والثاني أشبه بأخلاق بني إسرائيل الذميمة، وإليه ذهب الطبري‏.‏

 الآية رقم ‏(‏248‏)‏

‏{‏وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت‏{‏ أي إتيان التابوت، والتابوت كان من شأنه فيما ذكر أنه أنزله الله على آدم عليه السلام، فكان عنده إلى أن وصل إلى يعقوب عليه السلام، فكان في بني إسرائيل يغلبون به من قاتلهم حتى عصوا فغلبوا على التابوت غلبهم عليه العمالقة‏:‏ جالوت وأصحابه في قول السدي، وسلبوا التابوت منهم‏.‏

قلت‏:‏ وهذا أدل دليله على أن العصيان سبب الخذلان، وهذا بين‏.‏ قال النحاس‏:‏ والآية في التابوت على ما روي أنه كان يسمع فيه أنين، فإذا سمعوا ذلك ساروا لحربهم،، وإذا هدأ الأنين لم يسيروا ولم يسر التابوت‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا يضعونه في مأزق الحرب فلا تزال تغلب حتى عصوا فغلبوا وأخذ منهم التابوت وذل أمرهم؛ فلما رأوا آية الاصطلام وذهاب الذكر، أنف بعضهم وتكلموا في أمرهم حتى اجتمع ملؤهم أن قالوا لنبي الوقت‏:‏ أبعث لنا ملكا؛ فلما قال لهم‏:‏ ملككم طالوت راجعوه فيه كما أخبر الله عنهم؛ فلما قطعهم بالحجة سألوه البينة على ذلك، في قول الطبري‏.‏ فلما سألوا نبيهم البينة على ما قال، دعا ربه فنزل بالقوم الذين أخذوا التابوت داء بسببه، على خلاف في ذلك‏.‏ قيل‏:‏ وضعوه في كنيسة لهم فيها أصنام فكانت الأصنام تصبح منكوسة‏.‏ وقيل‏:‏ وضعوه في بيت أصنامهم تحت الصنم الكبير فأصبحوا وهو فوق الصنم، فأخذوه وشدوه إلى رجليه فأصبحوا وقد قطعت يدا الصنم ورجلاه وألقيت تحت التابوت؛ فأخذوه وجملوه في قرية قوم فأصاب أولئك القوم أوجاع في أعناقهم‏.‏ وقيل‏:‏ جعلوه في مخرأة قوم فكانوا يصيبهم الباسور؛ فلما عظم بلاؤهم كيفما كان، قالوا‏:‏ ما هذا إلا لهذا التابوت فلنرده إلى بني إسرائيل فوضعوه على عجلة بين ثورين وأرسلوهما في الأرض نحو بلاد بني إسرائيل، وبعث الله ملائكة تسوق البقرتين حتى دخلتا على بني إسرائيل، وهم في أمر طالوت فأيقنوا بالنصر؛ وهذا هو حمل الملائكة للتابوت في هذه الرواية‏.‏ وروي أن الملائكة جاءت به تحمله وكان يوشع بن نون قد جعله في البرية، فروي أنهم رأوا التابوت في الهواء حتى نزل بينهم؛ قال الربيع بن خيثم‏.‏ وقال وهب بن منبه‏:‏ كان قدر التابوت نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين‏.‏ الكلبي‏:‏ وكان من عود شمسار الذي يتخذ منه الأمشاط‏.‏ وقرأ زيد بن ثابت ‏{‏التابوه‏{‏ وهي لغته، والناس على قراءته بالتاء وقد تقدم‏.‏ وروي عنه ‏{‏التيبوت‏{‏ ذكره النحاس‏.‏ وقرأ حميد بن قيس ‏{‏يحمله‏{‏ بالياء‏.‏

قوله تعالى‏{‏فيه سكينة من ربكم وبقية‏{‏ اختلف الناس في السكينة والبقية؛ فالسكينة فعيلة مأخوذة من السكون والوقار والطمأنينة‏.‏ فقوله ‏{‏فيه سكينة‏{‏ أي هو سبب سكون قلوبكم فيما اختلفتم فيه من أمر طالوت؛ ونظيره ‏{‏فأنزل الله سكينته عليه‏}‏التوبة‏:‏ 40‏]‏ أي أنزل عليه ما سكن به قلبه‏.‏ وقيل‏:‏ أراد أن التابوت كان سبب سكون قلوبهم، فأينما كانوا سكنوا إليه ولم يفروا من التابوت إذا كان معهم في الحرب‏.‏ وقال وهب بن منبه‏:‏ السكينة روح من الله تتكلم، فكانوا إذا اختلفوا في أمر نطقت ببيان ما يريدون، وإذا صاحت في الحرب كان الظفر لهم‏.‏ وقال علي بن أبي طالب‏:‏ هي ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان‏.‏ وروي عنه أنه قال‏:‏ هي ريح خجوج لها رأسان‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ حيوان كالهر له جناحان وذنب ولعينيه شعاع، فإذا نظر إلى الجيش انهزم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ طست من ذهب من الجنة، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء؛ وقال السدي‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ والصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء وآثارهم، فكانت النفوس تسكن إلى ذلك وتأنس به وتقوى‏.‏

قلت‏:‏ وفي صحيح مسلم عن البراء قال‏:‏ كان رجل يقرأ سورة ‏{‏الكهف‏{‏ وعنده فرس مربوط بشطنين فتغشته سحابة فجعلت تدور وتدنو وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال‏:‏ ‏(‏تلك السكينة تنزلت للقرآن‏)‏‏.‏ وفي حديث أبي سعيد الخدري‏:‏ أن أسيد بن الحضير بينما هو ليلة يقرأ في مربده الحديث وفيه‏:‏ فقال رسوله الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تلك الملائكة كانت تستمع لك ولو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم‏)‏ خرجه البخاري ومسلم‏.‏ فأخبر صلى الله عليه وسلم عن نزول السكينة مرة، ومرة عن نزول الملائكة؛ فدل على أن السكينة كانت في تلك الظلة، وأنها تنزل أبدا مع الملائكة‏.‏ وفي هذا حجة لمن قال إن السكينة روح أو شيء له روح لأنه لا يصح استماع القرآن إلا لمن يعقل، والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وبقية‏{‏ اختلف في البقية على أقوال، فقيل‏:‏ عصا موسى وعصا هارون ورضاض الألواح؛ لأنها انكسرت حين ألقاها موسى، قال ابن عباس‏.‏ زاد عكرمة‏:‏، التوراة‏.‏ وقال أبو صالح‏:‏ البقية‏:‏ عصا موسى وثيابه وثياب هارون ولوحان من التوراة‏.‏ وقال عطية بن سعد‏:‏ وهي عصا موسى وعصا هارون وثيابهما ورضاض الألواح‏.‏ وقاله الثوري‏:‏ من الناس من يقول البقية قفيزا من في طست من ذهب وعصا موسى وعمامة هارون ورضاض الألواح‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ العصا والنعلان‏.‏ ومعنى هذا ما روي من أن موسى لما جاء قومه بالألواح فوجدهم قد عبدوا العجل، ألقى الألواح غضبا فتكسرت، فنزع منها ما كان صحيحا وأخذ رضاض ما تكسر فجعله في التابوت‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ البقية‏:‏ الجهاد وقتال الأعداء‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ أي الأمر بذلك في التابوت، إما أنه مكتوب فيه، وإما أن نفس الإتيان به هو كالأمر بذلك، وأسند الترك إلى آل موسى وآل هارون من حيث كان الأمر مندرجا من قوم إلى قوم وكلهم آل موسى وآل هارون‏.‏ وآل الرجل قرابته‏.‏ وقد تقدم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏249‏)‏

‏{‏فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فلما فصل طالوت بالجنود‏{‏ ‏{‏فصل‏{‏ معناه خرج بهم‏.‏ فصلت الشيء فانفصل، أي قطعته فانقطع‏.‏ قال وهب بن منبه‏:‏ فلما فصل طالوت قالوا له أن المياه لا تحملنا فادع الله أن يجري لنا نهرا فقال لهم طالوت‏:‏ إن الله مبتليكم بنهر‏.‏ وكان عدد الجنود - في قول السدي - ثمانين ألفا‏.‏ وقال وهب‏:‏ لم يتخلف عنه إلا ذو عذر من صغر أو كبر أو مرض‏.‏ والابتلاء الاختبار‏.‏ والنهَر والنهْر لغتان‏.‏ واشتقاقه من السعة، ومنه النهار وقد تقدم‏.‏ قال قتادة‏:‏ النهر الذي ابتلاهم الله به هو نهر بين الأردن وفلسطين‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏بنهر‏{‏ بفتح الهاء‏.‏ وقرأ مجاهد وحميد الأعرج ‏{‏بنهر‏{‏ بإسكان الهاء‏.‏ ومعنى هذا الابتلاء أنه اختبار لهم، فمن ظهرت طاعته في ترك الماء علم أنه مطيع فيما عدا ذلك، ومن غلبته شهوته في الماء وعصى الأمر فهو في العصيان في الشدائد أحرى، فروي أنهم أتوا النهر وقد نالهم عطش وهو في غاية العذوبة والحسن، فلذلك رخص للمطيعين في الغرفة ليرتفع عنهم أذى العطش بعض الارتفاع وليكسروا نزاع النفس في هذه الحال وبين أن الغرفة كافة ضرر العطش عند الحزمة الصابرين على شظف العيش الذين همهم في غير الرفاهية، كما قال عروة‏:‏

وأحسوا قراح الماء والماء بارد

قلت‏:‏ ومن هذا المعنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏حسب المرء لقيمات يقمن صلبه‏)‏‏.‏ وقال بعض من يتعاطى غوامض المعاني‏:‏ هذه الآية مثل ضربه الله للدنيا فشبهها الله بالنهر والشارب منه والمائل إليها والمستكثر منها والتارك لشربه بالمنحرف عنها والزاهد فيها، والمغترف بيده غرفة بالآخذ منها قدر الحاجة، وأحوال الثلاثة عند الله مختلفة‏.‏

قلت‏:‏ ما أحسن هذا لولا ما فيه من التحريف في التأويل والخروج عن الظاهر، لكن معناه صحيح من غير هذا‏.‏

استدل من قال أن طالوت كان نبيا بقوله‏{‏إن الله مبتليكم‏{‏ وأن الله أوحى إليه بذلك وألهمه، وجعله الإلهام ابتلاء من الله لهم‏.‏ ومن قال لم يكن نبيا قال‏:‏ أخبره نبيهم شمويل بالوحي حين أخبر طالوت قومه بهذا، وإنما وقع هذا الابتلاء ليتميز الصادق من الكاذب‏.‏ وقد ذهب قوم إلى أن عبدالله بن حذافة السهمي صاحب رسول الله صلى الله علي وسلم إنما أمر أصحابه بإيقاد النار والدخول فيها تجربة لطاعتهم، لكنه حمل مزاحه على تخشين الأمر الذي كلفهم، وسيأتي بيانه في ‏{‏النساء‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏فمن شرب منه فليس مني‏{‏ شرب قيل معناه كرع‏.‏ ومعنى ‏{‏فليس مني‏{‏ أي ليس من أصحابي في هذه الحرب، ولم يخرجهم بذلك عن الإيمان‏.‏ قال السدي‏:‏ كانوا ثمانين ألفا، ولا محالة أنه كان فيهم المؤمن والمنافق والمجد والكسلان، وفي الحديث ‏(‏من غشنا فليس منا‏)‏ أي ليس من أصحابنا ولا على طريقتنا وهدينا‏.‏ قال‏:‏

إذا حاولت في أسد فجورا فإني لست منك ولست مني

هذا مهيع في كلام العرب؛ يقول الرجل لابنه إذا سلك غير أسلوبه‏:‏ لست مني‏.‏

قوله تعالى‏{‏ومن لم يطعمه فإنه مني‏{‏ يقال‏:‏ طعمت الشيء أي ذقته‏.‏ وأطعمته الماء أي أذقته، ولم يقل ومن لم يشربه لأن من عادة العرب إذا كرروا شيئا أن يكرروه بلفظ آخر، ولغة القرآن أفصح اللغات، فلا عبرة بقدح من يقول‏:‏ لا يقال طعمت الماء‏.‏

استدل علماؤنا بهذا على القول بسد الذرائع؛ لأن أدنى الذوق يدخل في لفظ الطعم، فإذا وقع النهي عن الطعم فلا سبيل إلى وقوع الشرب ممن يتجنب الطعم؛ ولهذه المبالغة لم يأت الكلام ‏{‏ومن لم يشرب منه‏{‏‏.‏

لما قال تعالى‏{‏ومن لم يطعمه‏{‏ دل على أن الماء طعام وإذا كان طعاما كان قوتا لبقائه واقتيات الأبدان به فوجب أن يجري فيه الربا، قال ابن العربي‏:‏ وهو الصحيح من المذهب‏.‏ قال أبو عمر قال مالك‏:‏ لا بأس ببيع الماء على الشط بالماء متفاضلا وإلى أجل، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف‏.‏ وقال محمد بن الحسن‏:‏ هو مما يكال ويوزن، فعلى هذا القول لا يجوز عنده التفاضل، وذلك عنده فيه ربا؛ لأن علته في الربا الكيل والوزن‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لا يجوز بيع الماء متفاضلا ولا يجوز فيه الأجل، وعلته في الربا أن يكون مأكولا جنسا‏.‏

قال ابن العربي قال أبو حنيفة‏:‏ من قال إن شرب عبدي فلان من الفرات فهو حر فلا يعتق إلا أن يكرع فيه، والكرع أن يشرب الرجل بفيه من النهر، فإن شرب بيده أو اغترف بالإناء منه لم يعتق؛ لأن الله سبحانه فرق بين الكرع في النهر وبين الشرب باليد‏.‏ قال‏:‏ وهذا فاسد؛ لأن شرب الماء يطلق على كل هيئة وصفة في لسان العرب من غرف باليد أو كرع بالفم انطلاقا واحدا، فإذا وجد الشرب المحلوف عليه لغة وحقيقة حنث، فاعلمه‏.‏

قلت‏:‏ قول أبي حنيفة أصح، فإن أهل اللغة فرقوا بينهما كما فرق الكتاب والسنة‏.‏ قال الجوهري وغيره‏:‏ وكرع في الماء كروعا إذا تناوله بفيه من موضعه من غير أن يشرب بكفيه ولا بإناء، وفيه لغة أخرى ‏(2)‏ بكسر الراء يكرع كرعا‏.‏ والكَرَع‏:‏ ماء السماء يكرع فيه‏.‏ وأما السنة فذكر ابن ماجة في سننه‏:‏ حدثنا واصل بن عبدالأعلى حدثنا ابن فضيل عن ليث عن سعيد بن عامر عن ابن عمر قال‏:‏ مررنا على بركة فجعلنا نكرع فيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تكرعوا ولكن اغسلوا أيديكم ثم اشربوا فيها فإنه ليس إناء أطيب من اليد‏)‏ وهذا نص‏.‏ وليث بن أبي سليم خرج له مسلم وقد ضعف‏.‏

قوله تعالى‏{‏إلا من اغترف غرفة بيده‏{‏ الاغتراف‏:‏ الأخذ من الشيء باليد وبآلة، ومنه المغرفة، والغَرف مثل الاغتراف‏.‏ وقرئ ‏{‏غرفة‏{‏ بفتح الغين وهي مصدر، ولم يقل اغترافة لأن معنى الغرف والاغتراف واحد‏.‏ والغرفة المرة الواحدة‏.‏ وقرئ ‏{‏غرفة‏{‏ بضم الغين وهي الشيء المغترف‏.‏ وقال بعض المفسرين‏:‏ الغَرفة بالكف الواحد والغُرفة بالكفين‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ كلاهما لغتان بمعنى واحد‏.‏ وقال علي رضي الله عنه‏:‏ الأكف أنظف الآنية، ومنه قول الحسن‏:‏

لا يدلفون إلى ماء بآنية إلا اغترافا من الغدران بالراح

الدليف‏:‏ المشي الرويد‏.‏

قلت‏:‏ ومن أراد الحلال الصرف في هذه الأزمان دون شبهة ولا امتراء ولا ارتياب فليشرب بكفيه الماء من العيون والأنهار المسخرة بالجريان آناء الليل وآناء النهار، مبتغيا بذلك من الله كسب الحسنات ووضع الأوزار واللحوق بالأئمة الأبرار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من شرب بيده وهو يقدر على إناء يريد به التواضع كتب الله له بعدد أصابعه حسنات وهو إناء عيسى ابن مريم عليهما السلام إذا طرح القدح فقال أف هذا مع الدنيا‏)‏‏.‏ خرجه ابن ماجة من حديث ابن عمر قال‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب على بطوننا وهو الكرع، ونهانا أن نغترف باليد الواحدة، وقال‏:‏ ‏(‏لا يلغ أحدكم كما يلغ الكلب ولا يشرب باليد الواحدة كما يشرب القوم الذين سخط الله عليهم ولا يشرب بالليل في إناء حتى يحركه إلا أن يكون إناء مخمرا ومن شرب بيده وهو يقدر على إناء‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث كما تقدم، وفي إسناده بقية بن الوليد، قال أبو حاتم‏:‏ يكتب حديثه ولا يحتج به‏.‏ وقال أبو زرعة‏:‏ إذا حدث بقية عن الثقات فهو ثقة‏.‏

قوله تعالى‏{‏فشربوا منه إلا قليلا منهم‏{‏ قال ابن عباس‏:‏ شربوا على قدر يقينهم فشرب الكفار شرب الهيم وشرب العاصون دون ذلك، وانصرف من القوم ستة وسبعون ألفا وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئا وأخذ بعضهم الغرفة، فأما من شرب فلم يرو، بل برح به العطش، وأما من ترك الماء فحسنت حاله وكان أجلد ممن أخذ الغرفة‏.‏

قوله تعالى‏{‏فلما جاوزه هو‏{‏ الهاء تعود على النهر، و‏{‏هو‏{‏ توكيد‏.‏ ‏{‏والذين‏{‏ في موضع رفع عطفا على المضمر في ‏{‏جاوزه‏{‏ يقال‏:‏ جاوزت المكان مجاوزة وجوازا‏.‏ والمجاز في الكلام ما جاز في الاستعمال ونفذ واستمر على وجهه‏.‏ قال ابن عباس والسدي‏:‏ جاز معه في النهر أربعة آلاف رجل فيهم من شرب، فلما نظروا إلى جالوت وجنوده وكانوا مائة ألف كلهم شاكون في السلاح رجع منهم ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون؛ فعلى هذا القول قال المؤمنون الموقنون بالبعث والرجوع إلى الله تعالى عند ذلك وهم عدة أهل بدر‏{‏كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله‏{‏‏.‏ وأكثر المفسرين‏:‏ على أنه إنما جاز معه النهر من لم يشرب جملة، فقال بعضهم‏:‏ كيف نطيق العدو مع كثرتهم فقال أولو العزم منهم‏{‏كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله‏{‏‏.‏ قال البراء بن عازب‏:‏ كنا نتحدث أن عدة أهل بدر كعدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا - وفي رواية‏:‏ وثلاثة عشر رجلا - وما جاز معه إلا مؤمن‏.‏

قوله تعالى‏{‏قال الذين يظنون‏{‏ والظن هنا بمعنى اليقين، ويجوز أن يكون شكا لا علما، أي قال الذين يتوهمون أنهم يقتلون مع طالوت فيلقون الله شهداء، فوقع الشك في القتل‏.‏

قوله تعالى‏{‏كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة‏{‏ الفئة‏:‏ الجماعة من الناس والقطعة منهم من فأوت رأسه بالسيف وفأيته أي قطعته‏.‏ وفي قولهم رضي الله عنهم‏{‏كم من فئة قليلة‏{‏ الآية تحريض على القتال واستشعار للصبر واقتداء بمن صدق ربه‏.‏

قلت‏:‏ هكذا يجب علينا نحن أن نفعل ‏؟‏ لكن الأعمال القبيحة والنيات الفاسدة منعت من ذلك حتى ينكسر العدد الكبير منا قدام اليسير من العدو كما شاهدناه غير مرة، وذلك بما كسبت أيدينا وفي البخاري‏:‏ قال أبو الدرداء‏:‏ إنما تقاتلون بأعمالكم‏.‏ وفيه مسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم‏)‏‏.‏ فالأعمال فاسدة والضعفاء مهملون والصبر قليل والاعتماد ضعيف والتقوى زائلة‏.‏ قال الله تعالى‏{‏اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله‏}‏آل عمران‏:‏ 200‏]‏ وقال‏{‏وعلى الله فتوكلوا‏}‏المائدة‏:‏ 23‏]‏ وقال‏{‏إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون‏}‏النحل‏:‏ 128‏]‏ وقال‏{‏ولينصرن الله من ينصره‏}‏الحج‏:‏ 40‏]‏ وقال‏{‏إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون‏}‏الأنفال‏:‏ 45‏]‏‏.‏ فهذه أسباب النصر وشروطه وهي معدومة عندنا غير موجودة فينا، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحل بنا‏!‏ بل لم يبق من الإسلام إلا ذكره، ولا من الدين إلا رسمه لظهور الفساد ولكثرة الطغيان وقلة الرشاد حتى استولى العدو شرقا وغربا برا وبحرا، وعمت الفتن وعظمت المحن ولا عاصم إلا من رحم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏250‏)‏

‏{‏ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين‏}‏

قوله‏{‏برزوا‏{‏ صاروا في البَراز وهو الأفيح من الأرض المتسع‏.‏ وكان جالوت أمير العمالقة وملكهم ظله ميل‏.‏ ويقال‏:‏ إن البر من من نسله، وكان فيما روي في ثلاثمائة ألف فارس‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ في تسعين ألفا، ولما رأى المؤمنون كثرة عدوهم تضرعوا إلى ربهم؛ وهذا كقوله‏{‏وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير‏}‏آل عمران‏:‏ 146‏]‏ إلى قوله ‏{‏وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا‏}‏آل عمران‏:‏ 147‏]‏ الآية‏.‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقي العدو يقول في القتال‏:‏ ‏(‏اللهم بك أصول وأجول‏)وكان صلى الله عليه وسلم يقول إذا لقي العدو‏:‏ ‏(‏اللهم إني أعوذ بك من شرورهم وأجعلك في نحورهم‏)‏ ودعا يوم بدر حتى سقط رداؤه عن منكبيه يستنجز الله وعده على ما يأتي بيانه في ‏{‏آل عمران‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏251‏)‏

‏{‏فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فهزموهم بإذن الله‏{‏ أي فأنزل الله عليهم النصر ‏{‏فهزموهم‏{‏‏:‏ فكسروهم‏.‏ والهزم‏:‏ الكسر ومنه سقاء متهزم، أي انثنى بعضه على بعض مع الجفاف، ومنه ما قيل في زمزم‏:‏ إنها هزمة جبريل أي هزمها جبريل برجله فخرج الماء‏.‏ والهزم‏:‏ ما تكسر من يابس الحطب‏.‏

قوله تعالى‏{‏وقتل داود جالوت‏{‏ وذلك أن طالوت الملك اختاره من بين قومه لقتال جالوت، وكان رجلا قصيرا مسقاما مصفارا أصغر أزرق، وكان جالوت من أشد الناس وأقواهم وكان يهزم الجيوش وحده، وكان قتل جالوت وهو رأس العمالقة على يده‏.‏ وهو داود، بن إيشى - بكسر الهمزة، ويقال‏:‏ داود بن زكريا بن رشوى، وكان من سبط يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وكان من أهل بيت المقدس جمع له بين النبوة والملك بعد أن كان راعيا وكان أصغر إخوته وكان يرعى غنما، وكان له سبعة إخوة في أصحاب طالوت؛ فلما حضرت الحرب قال في نفسه‏:‏ لأذهبن إلى رؤية هذه الحرب، فلما نهض في طريقه مر بحجر فناداه‏:‏ يا داود خذني فبي تقتل جالوت، ثم ناداه حجر آخر ثم آخر فأخذها وجعلها في مخلاته وسار، فخرج جالوت يطلب مبارزا فكع الناس عنه حتى قال طالوت‏:‏ من يبرز إليه ويقتله فأنا أزوجه ابنتي وأحكمه في مالي؛ فجاء داود عليه السلام فقال‏:‏ أنا أبرز إليه وأقتله، فازدراه طالوت حين رآه لصغير سنه وقصره فرده، وكان داود أزرق قصيرا؛ ثم نادى ثانية وثالثة فخرج داود، فقال طالوت له‏:‏ هل جربت نفسك بشيء ‏؟‏ قال نعم؛ قال بماذا ‏؟‏ قال‏:‏ وقع ذئب في غنمي فضربته ثم أخذت رأسه فقطعته من جسده‏.‏ قال طالوت‏:‏ الذئب ضعيف، هل جربت نفسك في غيره ‏؟‏ قال‏:‏ نعم، دخل الأسد في غنمي فضربته ثم أخذت بلحييه فشققتهما؛ أفترى هذا أشد من الأسد ‏؟‏ قال لا؛ وكان عند طالوت درع لا تستوي إلا على من يقتل جالوت، فأخبره بها وألقاها عليه فاستوت؛ فقال طالوت‏:‏ فأركب فرسي وخذ سلاحي ففعل؛ فلما مشى قليلا رجع فقال الناس‏:‏ جبن الفتى فقال داود‏:‏ إن الله إن لم يقتله لي ويعني عليه لم ينفعني هذا الفرس ولا هذا السلاح، ولكني أحب أن أقاتله على عادتي‏.‏ قال‏:‏ وكان داود من أرمى الناس بالمقلاع، فنزل وأخذ مخلاته فتقلدها وأخذ مقلاعه وخرج إلى جالوت، وهو شاك في سلاحه على رأسه بيضة فيها ثلاثمائة رطل، فيما ذكر الماوردي وغيره؛ فقال له جالوت‏:‏ أنت يا فتى تخرج إلي قال نعم؛ قال‏:‏ هكذا كما تخرج إلى الكلب قال نعم، وأنت أهون‏.‏ قال‏:‏ لأطعمن لحمك اليوم للطير والسباع؛ ثم تدانيا وقصد جالوت أن يأخذ داود بيده استخفافا به، فأدخل داود يده إلى الحجارة، فروي أنها التأمت فصارت حجرا واحدا، فأخذه فوضعه في المقلاع وسمى الله، وأداره ورماه فأصاب به رأس جالوت فقتله، وحز رأسه وجعله في مخلاته، وأختلط الناس وحمله أصحاب طالوت فكانت الهزيمة‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنما أصاب بالحجر من البيضة موضع أنفه، وقيل‏:‏ عينه وخرج من قفاه، وأصاب جماعة من عسكره فقتلهم‏.‏ وقيل‏:‏ إن الحجر تفتت حتى أصاب كل من في العسكر شيء منه؛ وكان كالقبضة التي رمى بها النبي صلى الله عليه وسلم هوازن يوم حنين، والله أعلم‏.‏ وقد أكثر الناس في قصص هذه الآي، وقد ذكرت لك منها المقصود والله المحمود‏.‏

قلت‏:‏ وفي قول طالوت‏:‏ ‏(‏من يبرز له ويقتله فإني أزوجه ابنتي وأحكمه في مالي‏)‏ معناه ثابت في شرعنا، وهو أن يقول الإمام‏:‏ من جاء برأس فله كذا، أو أسير فله كذا على ما يأتي بيانه في ‏{‏الأنفال‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ وفيه دليل على أن المبارزة لا تكون إلا بإذن الإمام؛ كما يقوله أحمد وإسحاق وغيرهما‏.‏ واختلف فيه عن الأوزاعي فحكي عنه أنه قال‏:‏ لا يحمل أحد إلا بإذن إمامه‏.‏ وحكي عنه أنه قال‏:‏ لا بأس به، فإن نهى الإمام عن البراز فلا يبارز أحد إلا بإذنه‏.‏ وأباحت طائفة البراز ولم تذكر بإذن الإمام ولا بغير إذنه؛ هذا قول مالك‏.‏ سئل مالك عن الرجل يقول بين الصفين‏:‏ من يبارز ‏؟‏ فقال‏:‏ ذلك إلى نيته إن كان يريد بذلك الله فأرجو ألا يكون به بأس، قد كان يفعل ذلك فيما مضى‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لا بأس بالمبارزة‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ المبارزة بإذن الإمام حسن، وليس على من بارز بغير إذن الإمام حرج، وليس ذلك بمكروه لأني لا أعلم خبرا يمنع منه‏.‏

قوله تعالى‏{‏وآتاه الله الملك والحكمة‏{‏ قال السدي‏:‏ أتاه الله ملك، طالوت ونبوة شمعون‏.‏ والذي علمه هو صنعة الدروع ومنطق الطير وغير ذلك من أنواع ما علمه صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هو أن الله أعطاه سلسلة موصولة بالمجرة والفلك ورأسها عند صومعة داود؛ فكان لا يحدث في الهواء حدث إلا صلصلت السلسلة فيعلم داود ما حدث، ولا يمسها ذو عاهة إلا برئ؛ وكانت علامة دخول قومه في الدين أن يمسوها بأيديهم ثم يمسحون أكفهم على صدورهم، وكانوا يتحاكمون إليها بعد داود عليه السلام إلى أن رفعت‏.‏

قوله تعالى‏{‏مما يشاء‏{‏ أي مما شاء، وقد يوضع المستقبل موضع الماضي، وقد تقدم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض‏{‏ كذا قراءة الجماعة، إلا نافعا فإنه قرأ ‏{‏دفاع‏{‏ ويجوز أن يكون مصدرا لفعل كما يقال‏:‏ حسبت الشيء حسابا، وآب إيابا، ولقيته لقاء؛ ومثله كتبه كتابا؛ ومنه ‏{‏كتاب الله عليكم‏}‏النساء‏:‏ 24‏]‏ النحاس‏:‏ وهذا حسن؛ فيكون دفاع ودفع مصدرين لدفع وهو مذهب سيبويه‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ دافع ودفع بمعنى واحد؛ مثل طرقت النعل وطارقت؛ أي خصفت إحداهما فوق الأخرى، والخصف‏:‏ الخرز‏.‏ واختار أبو عبيدة قراءة الجمهور ‏{‏ولولا دفع الله‏{‏‏.‏ وأنكر أن يقرأ ‏{‏دفاع‏{‏ وقال‏:‏ لأن الله عز وجل لا يغالبه أحد‏.‏ قال مكي‏:‏ هذا وهم توهم فيه باب المفاعلة وليس به، واسم ‏{‏الله‏{‏ في موضع رفع بالفعل، أي لولا أن يدفع الله‏.‏ و‏{‏دفاع‏{‏ مرفوع بالابتداء عند سيبويه‏.‏ ‏{‏الناس‏{‏ مفعول، ‏{‏بعضهم‏{‏ بدل من الناس، ‏{‏ببعض‏{‏ في موضع المفعول الثاني عند سيبويه، وهو عنده مثل قولك‏:‏ ذهبت بزيد، فزيد في موضع مفعول فاعلمه‏.‏

واختلف العلماء في الناس المدفوع بهم الفساد من هم ‏؟‏ فقيل‏:‏ هم الأبدال وهم أربعون رجلا كلما مات واحد بدل الله آخر، فإذا كان عند القيامة ماتوا كلهم؛ اثنان وعشرون منهم بالشام وثمانية عشر بالعراق‏.‏ وروي عن علي رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن الأبدال يكونون بالشام وهم أربعون رجلا كلما مات منهم رجل أبدله الله مكانه رجلا يسقى بهم الغيث وينصر بهم على الأعداء ويصرف بهم عن أهل الأرض البلاء‏)‏ ذكره الترمذي الحكيم في ‏{‏نوادر الأصول‏{‏‏.‏ وخرج أيضا عن أبي الدرداء قال‏:‏ إن الأنبياء كانوا أوتاد الأرض، فلما انقطعت النبوة أبدل الله مكانهم قوما من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يقال لهم الأبدال؛ لم يفضلوا الناس بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بحسن الخلق وصدق الورع وحسن النية وسلامة القلوب لجميع المسلمين والنصيحة لهم ابتغاء مرضاة الله بصبر وحلم ولب، وتواضع في غير مذلة، فهم خلفاء الأنبياء قوم اصطفاهم الله لنفسه واستخلصهم بعلمه لنفسه، وهم أربعون صديقا منهم ثلاثون رجلا على مثل يقين إبراهيم خليل الرحمن، يدفع الله بهم المكاره عن أهل الأرض والبلايا عن الناس، وبهم يمطرون ومن يرزقون، لا يموت الرجل منهم حتى يكون الله قد أنشأ من يخلفه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ولولا دفع الله العدو بجنود المسلمين لغلب المشركون فقتلوا المؤمنين وخربوا البلاد والمساجد‏.‏ وقال سفيان الثوري‏:‏ هم الشهود الذين تستخرج بهم الحقوق‏.‏ وحكى مكي أن أكثر المفسرين على أن المعنى‏:‏ لولا أن الله يدفع بمن يصلي عمن لا يصلي وبمن يتقي عمن لا يتقي لأهلك الناس بذنوبهم؛ وكذا ذكر النحاس والثعلبي أيضا‏.‏ قال الثعلبي وقال سائر المفسرين‏:‏ ولولا دفاع الله المؤمنين الأبرار عن الفجار والكفار لفسدت الأرض، أي هلكت وذكر حديثا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الله يدفع العذاب بمن يصلي من أمتي عمن لا يصلي وبمن يزكي عمن لا يزكي وبمن يصوم عمن لا يصوم وبمن يحج عمن لا يحج وبمن يجاهد عمن لا يجاهد، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء ما أنظرهم الله طرفة عين - ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض‏)‏‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن لله ملائكة تنادي كل يوم لولا عباد ركع وأطفال رضع وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا‏)‏ خرجه أبو بكر الخطيب بمعناه من حديث الفضيل بن عياض‏.‏ حدثنا منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لولا فيكم رجال خشع وبهائم رتع وصبيان رضع لصب العذاب على المؤمنين صبا‏)‏‏.‏ أخذ بعضهم هذا المعنى فقال‏:‏

لولا عباد للإله ركع وصبية من اليتامى رضع

ومهملات في الفلاة رتع صب عليكم العذاب الأوجع

وروى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الله ليصلح بصلاح الرجل ولده وولد ولده وأهله دويرته ودويرات حوله ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم‏)‏‏.‏ وقال قتادة‏:‏ يبتلي الله المؤمن بالكافر ويعافي الكافر بالمؤمن‏.‏ وقال ابن عمر قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏، ‏(‏إن الله ليدفع بالمؤمن الصالح عن مائة من أهل بيته وجيرانه البلاء‏)‏‏.‏ ثم قرأ ابن عمر ‏{‏ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض‏{‏‏.‏ وقيل‏:‏ هذا الدفع بما شرع على السنة الرسل من الشرائع، ولولا ذلك لتسالب الناس وتناهبوا وهلكوا، وهذا قول حسن فإنه عموم في الكف والدفع وغير ذلك فتأمله‏.‏ ‏{‏ولكن الله ذو فضل على العالمين‏{‏‏.‏ بين سبحانه أن دفعه بالمؤمنين شر الكافرين فضل منه ونعمة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏252‏)‏

‏{‏تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين‏}‏

تلك‏:‏ ابتداء ‏{‏آيات الله‏{‏ خبره، وإن شئت كان بدلا والخبر ‏{‏نتلوها عليك بالحق‏{‏‏.‏ ‏{‏وإنك لمن المرسلين‏{‏، خبر إن أي وإنك لمرسل‏.‏ نبه الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن هذه الآيات التي تقدم ذكرها لا يعلمها إلا نبي مرسل‏.‏

 الآية رقم ‏(‏253‏)‏

‏{‏تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد‏}‏

قوله تعالى‏{‏تلك الرسل‏{‏ قال‏{‏تلك‏{‏ ولم يقل‏:‏ ذلك مراعاة لتأنيث لفظ الجماعة، وهي رفع بالابتداء‏.‏ و‏{‏الرسل‏{‏ نعته، وخبر الابتداء الجملة‏.‏ وقيل‏:‏ الرسل عطف بيان، و‏{‏فضلنا‏{‏ الخبر‏.‏ وهذه آية مشكلة والأحاديث ثابتة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تخيروا بين الأنبياء‏)‏ و‏(‏لا تفضلوا بين أنبياء الله‏)‏ رواها الأئمة الثقات، أي لا تقولوا‏:‏ فلان خير من فلان، ولا فلان أفضل من فلان‏.‏ يقال‏:‏ خير فلان بين فلان وفلان، وفضل،‏(‏مشددا‏)‏ إذا قال ذلك‏.‏ وقد اختلف العلماء في تأويله هذا المعنى؛ فقال قوم‏:‏ إن هذا كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل، وقبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم، وإن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ إنما أراد بقوله‏:‏ ‏(‏أنا سيد ولد آدم يوم القيامة؛ لأنه الشافع يومئذ وله لواء الحمد والحوض، وأراد بقوله‏{‏لا تخيروني على موسى‏{‏ على طريق التواضع؛ كما قال أبو بكر‏:‏ وليتكم ولست بخيركم‏.‏ وكذلك معنى قوله‏:‏ ‏(‏لا يقل أحد أنا خير من يونس بن متى‏)‏ على معنى التواضع‏.‏ وفي قوله تعالى‏{‏ولا تكن كصاحب الحوت‏}‏القلم‏:‏ 48‏]‏ ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منه؛ لأن الله تعالى يقول‏:‏ ولا تكن مثله؛ فدل على أن قوله‏:‏ ‏(‏لا تفضلوني عليه‏)‏ من طريق التواضع‏.‏ ويجوز أن يريد لا تفضلوني عليه في العمل فلعله أفضل عملا مني، ولا في البلوى والامتحان فإنه أعظم محنة مني‏.‏ وليس ما أعطاه الله لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم من السؤدد والفضل يوم القيامة على جميع الأنبياء والرسل بعمله بل بتفضيل الله إياه واختصاصه له، وهذا التأويل اختاره المهلب‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ إنما نهى عن الخوض في ذلك، لأن الخوض في ذلك ذريعة إلى الجدال وذلك يؤدي إلى أن يذكر منهم ما لا ينبغي أن يذكر ويقل احترامهم عند المماراة‏.‏ قال شيخنا‏:‏ فلا يقال‏:‏ النبي أفضل من الأنبياء كلهم ولا من فلان ولا خير، كما هو ظاهر النهي لما يتوهم من النقص في المفضول؛ لأن النهي اقتضى منه إطلاق اللفظ لا منع اعتقاد ذلك المعنى؛ فإن الله تعالى أخبر بأن الرسل متفاضلون، فلا تقول‏:‏ نبينا خير من الأنبياء ولا من فلان النبي اجتنابا لما نهي عنه وتأدبا به وعملا باعتقاد ما تضمنه القرآن من التفضيل، والله بحقائق الأمور عليم‏.‏

قلت‏:‏ وأحسن من هذا قول من قال‏:‏ إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها، وإنما التفضيل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والألطاف والمعجزات المتباينات، وأما النبوة في نفسها فلا تتفاضل وإنما تتفاضل بأمور أخر زائدة عليها؛ ولذلك منهم رسل وأولو عزم، ومنهم من اتخذ خليلا، ومنهم من كلم الله، ورفع بعضهم درجات، قال الله تعالى‏{‏ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا‏}‏الإسراء‏:‏ 55‏]‏ وقال‏{‏تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض‏}‏البقرة‏:‏ 253‏]‏‏.‏

قلت‏:‏ وهذا قول حسن، فإنه جمع بين الآي والأحاديث من غير نسخ، والقول بتفضيل بعضهم على بعض إنما هو بما منح من الفضائل وأعطي من الوسائل، وقد أشار ابن عباس إلى هذا فقال‏:‏ إن الله فضل محمدا على الأنبياء وعلى أهل السماء، فقالوا‏:‏ بم يا ابن عباس فضله على أهل السماء ‏؟‏ فقال‏:‏ إن الله تعالى قال‏{‏ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين‏}‏الأنبياء‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم‏{‏إنا فتحنا لك فتحا مبينا‏.‏ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر‏}‏الفتح‏:‏ 1 - 2‏]‏‏.‏ قالوا‏:‏ فما فضله على الأنبياء ‏؟‏‏.‏ قال‏:‏ قال الله تعالى‏{‏وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم‏}‏إبراهيم‏:‏ 4‏]‏ وقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم‏{‏وما أرسلناك إلا كافة للناس‏}‏سبأ‏:‏ 28‏]‏ فأرسله إلى الجن والإنس؛ ذكره أبو محمد الدارمي في مسنده‏.‏ وقال أبو هريرة‏:‏ خير بني آدم نوج وإبراهيم وموسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وهم أولو العزم من الرسل، وهذا نص من ابن عباس وأبي هريرة في التعيين، ومعلوم أن من أرسل أفضل ممن لم يرسل، فإن من أرسل فضل على غيره بالرسالة واستووا في النبوة إلى ما يلقاه الرسل من تكذيب أممهم وقتلهم إياهم، وهذا مما لا خفاء فيه، إلا أن ابن عطية أبا محمد عبدالحق قال‏:‏ إن القرآن يقتضي التفضيل، وذلك في الجملة دون تعيين أحد مفضول، وكذلك هي الأحاديث؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنا أكرم ولد آدم على ربي‏)وقال‏:‏ ‏(‏أنا سيد ولد آدم‏)‏ ولم يعين، وقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏لا تفضلوني على موسى‏)‏‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وفي هذا نهي شديد عن تعيين المفضول؛ لأن يونس عليه السلام كان شابا وتفسخ تحت أعباء النبوة‏.‏ فإذا كان التوقيف لمحمد صلى الله عليه وسلم فغيره أحرى‏.‏

قلت‏:‏ ما اخترناه أولى إن شاء الله تعالى؛ فإن الله تعالى لما أخبر أنه فضل بعضهم على بعض جعل يبين بعض المتفاضلين ويذكر الأحوال التي فضلوا بها فقال‏{‏منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات‏}‏البقرة‏:‏ 253‏]‏ وقال ‏{‏وآتينا داود زبورا‏}‏الإسراء‏:‏ 55‏]‏ وقال تعالى‏{‏وآتيناه الإنجيل‏}‏المائدة‏:‏ 46‏]‏، ‏{‏ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين‏}‏الأنبياء‏:‏ 48‏]‏ وقال تعالى‏{‏ولقد آتينا داود وسليمان علما‏}‏النمل‏:‏ 15‏]‏ وقال‏{‏وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح‏}‏الأحزاب‏:‏ 7‏]‏ فعم ثم خص وبدأ بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا ظاهر‏.‏

قلت‏:‏ وهكذا القول في الصحابة إن شاء الله تعالى، اشتركوا في الصحبة ثم تباينوا في الفضائل بما منحهم الله من المواهب والوسائل، فهم متفاضلون بتلك مع أن الكل شملتهم الصحبة والعدالة والثناء عليهم، وحسبك بقوله الحق‏{‏محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار‏}‏الفتح‏:‏ 29‏]‏ إلى آخر السورة‏.‏ وقال‏{‏وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها‏}‏الفتح‏:‏ 26‏]‏ ثم قال‏{‏لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل‏}‏الحديد‏:‏ 10‏]‏ وقال‏{‏لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة‏}‏الفتح‏:‏ 18‏]‏ فعم وخص، ونفى عنهم الشين والنقص، رضي الله عنهم أجمعين ونفعنا بحبهم آمين‏.‏

قوله تعالى‏{‏منهم من كلم الله‏{‏ المكلم موسى عليه السلام، وقد سئل رسوله الله صلى الله عليه وسلم عن آدم أنبي مرسل هو ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏نعم نبي مكلم‏)‏‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وقد تأول بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة، فعلى هذا تبقى خاصية موسى‏.‏ وحذفت الهاء لطول الاسم، والمعنى من كلمه الله‏.‏

قوله تعالى‏{‏ورفع بعضهم درجات‏{‏ قال النحاس‏:‏ بعضهم هنا على قول ابن عباس والشعبي ومجاهد محمد صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بعثت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ونصرت بالرعب مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم وأعطيت، الشفاعة‏)‏‏.‏ ومن ذلك القرآن وانشقاق القمر وتكليمه الشجر وإطعامه الطعام خلقا عظيما من تميرات ودرور شاة أم معبد بعد جفاف‏.‏ وقال ابن عطية معناه، وزاد‏:‏ وهو أعظم الناس أمة وختم به النبيون إلى غير ذلك من الخلق العظيم الذي أعطاه الله‏.‏ ويحتمل اللفظ أن يراد به محمد صلى الله عليه وسلم وغيره ممن عظمت آياته، ويكون الكلام تأكيدا‏.‏ ويحتمل أن يريد به رفع إدريس المكان العلي، ومراتب الأنبياء في السماء كما في حديث الإسراء، وسيأتي‏.‏

قوله تعالى‏{‏وآتينا عيسى ابن مريم البينات‏{‏ وبينات عيسى هي إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وخلق الطير من الطين كما نص عليه في التنزيل‏.‏ ‏{‏وأيدناه‏{‏ قويناه‏.‏ ‏{‏بروح القدس‏{‏ جبريل عليه السلام، وقد تقدم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولو شاء الله ما أقتتل الذين من بعدهم‏{‏ أي من بعد الرسل‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير لموسى وعيسى، والاثنان جمع‏.‏ وقيل‏:‏ من بعد جميع الرسل، وهو ظاهر اللفظ‏.‏ وقيل‏:‏ إن القتال إنما وقع من الذين جاؤوا بعدهم وليس كذلك المعنى، بل المراد ما اقتتل الناس بعد كل نبي، وهذا كما تقول‏:‏ اشتريت خيلا ثم بعتها، فجائز لك هذه العبارة وأنت إنما اشتريت فرسا وبعته ثم آخر وبعته ثم آخر وبعته، وكذلك هذه النوازل إنما اختلف الناس بعد كل نبي فمنهم من آمن ومنهم من كفر بغيا وحسدا وعلى حطام الدنيا، وذلك كله بقضاء وقدر وإرادة من الله تعالى، ولو شاء خلاف ذلك لكان ولكنه المستأثر بسر الحكمة في ذلك الفعل لما يريد‏.‏ وكسرت النون من ‏{‏ولكن اختلفوا‏{‏ لالتقاء الساكنين، ويجوز حذفها في غير القرآن، وأنشد سيبويه‏:‏

فلست بآتيه ولا أستطيعه ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل

‏{‏فمنهم من آمن ومنهم من كفر‏{‏ ‏{‏من‏{‏ في موضع رفع بالابتداء والصفة